في كل مرة يعود فيها من العمل، يعد نفسه لجرعة مركزة من النكد، تحقنه بها زوجته المصون أم زعزع، وهو لا يألو جهداً في سد منافذ النكد عنها، لكن دون جدوى.
إذ إن النكد أحد الهوايات المحببة لقلب أم زعزع، والتي تسعى دوماً إلى تنميتها واستثمارها على النحو الأمثل، ومبدؤها في الحياة “أنا أنكد إذن أنا موجودة”.
ففضلاً عن الذكريات المؤلمة التي تمتلئ بها ذاكرة أم زعزع؛ لتشحن بها بطارية نكدها اليومي، تجد أم زعزع منافذ أخرى من خلال تواصلها مع الآخرين.
حدث ذات مرة أن دخل أبو زعزع عليها، فوجدها ترعد وتزبد إثر مكالمة هاتفية مع أمه، قالت لها كلاما صنفته أم زعزع بالسمي، نسبة إلى المواد السامة.
وبينما أم زعزع تحكي لأبي زعزع عن تفاصيل المكالمة، كان أبو زعزع يقوم بفصل جهاز الهاتف الأرضي، بعد أن أخرج شريحة الجوال من هاتف أم زعزع ووضعها في جيبه.
لا ينكر أبو زعزع أن الإجراء الذي اتخذه أراح رأسه لبضعة أيام، حتى ذلك اليوم الذي دخل على زوجته فوجد ملامح وجهها قد تبعثرت من شدة الغضب. وقبل أن يسأل قذفت أم زعزع حممها البركانية في وجهه، واستطاع بعد جهد جهيد أن يفك طلاسم كلماتها، حتى استخرج منها اسم أخته. ترى كيف تواصلت أم زعزع مع أخته وخط الهاتف مفصول، وشريحة جوالها في جيبه، طرح سؤاله على أم زعزع التي سارعت بالقول: عبر الواتس أب حدث ذلك. وما هي إلا لحظات حتى جاور جهاز الجوال الشريحة في جيبه.
إجراء جيد من أبي زعزع.. لكن اعتلال المزاج النفسي الدائم عند أم زعزع يجعلها بارعة في التعكير الدائم لصفو الآخر، والآخر هنا هو أبو زعزع بكل تأكيد.
كان لا زال في أسفل البناء عندما سمع صوت أم زعزع يجلجل في المكان، حدث ذلك إثر خلاف دب مع جارة لهم؛ مما حدا بأبي زعزع عند خروجه للعمل بإقفال الباب عليها وابتلاع المفتاح.
منّىّ أبو زعزع نفسه بالنصر على فيروس النكد المستشري في جسد أم زعزع، وتأمل يوماً أن يعود إلى بيته ليجد ابتسامة نسيّ كيف كان شكل وجه أم زعزع إن فعلتها.
كان واقفاً عند باب الغرفة عندما سمع نحيبها. اقترب منها فإذا بها تشاهد برنامج “خبرني يا طير*” وقبله كانت قد تعرضت لجرعة مكثفة من نشرات الأخبار بما فيها من مشاهد القتل والدمار.
بدأت أم زعزع تسرد على زوجها ما شاهدته اليوم في التلفاز من أخبار تدمي القلب، تفاعل معها أبو زعزع؛ فذلك هم يشتركان فيه، لكنه الذي يأمل أن يعيش بسلام، تناول جهاز التحكم وأخذ يشفر القنوات الإخبارية والتراجيدية.
فما كان من أم زعزع إلا وآثرت النكد، تعبيراً عن مشاعرها حين أتى ليلاً فوجدها غاضبة. وقبل أن يسأل بادرته بالتأفف على حالها ومالها ومنزلها ومقتنياتها، بعد أن شاهدت عبر التلفاز البيوت الفارهة، فأخذت تشكو حظها العاثر بعد مقارنة تفصيلية بين مظاهر الترف التي رأتها على شاشات التلفاز، وبين ما تعيشه. ثم بدأت تستفيض في مقارناتها حتى خرجت من شاشة التلفاز إلى بيوت الجارات والصديقات، فتفاعل أبو زعزع معها، وزادها من الشعر بيتاً، وهو يهم بفصل التلفاز وإخفاء شريطه الكهربائي.. ويردد قائلاً: وكل من تعرفينهم من النسوة لديهم تلفاز إلا أنت.. يالحظك العاثر.
اعتقد أبو زعزع أنه لم يبق لأم زعزع منفذاً تنكد به على حياته، ولكن مثل أم زعزع لا يوقفها عن النكد شيء. إذ ينطبق عليها المثل الهندي القائل: “لا تكف عن الكلام إلا لتبكي”.
لازال يذكر تلك الليلة التي دخل فيها منزله، واثقاً من أنه سيجد أم زعزع باسمة؛ إذ لم يعد هناك طريقة تنكد على زوجته إلا وقد تخلص منها – هكذا هو اعتقد – اقترب من غرفة المعيشة، وتعلو وجهه ابتسامة نصر، ما لبثت أن تلاشت مع صوت نحيب صادر من غرفة نومه. اتجه إلى هناك، فوجد أم زعزع في منتصف السرير، بشعرها المنكوش تبكي وتنوح، وقبل أن يبادر بالسؤال وكل علامات الاستفهام، اجتمعت في وجهه، بدأت أم زعزع تسرد ما رأته في منامها؛ فحيث إنها لم تجد ما تفعله، توجهت إلى البراد، فأكلت حتى انتفخت، ثم دخلت غرفتها واندفست، فرأت فيما يرى النائم أم أبي زعزع تهاتفها وتسمعها كلاما صنفته على أنه سمي، فيما كان التلفاز يعرض صوراً لقتلى وجرحى. وكانت أخت أبي زعزع تراسلها على الواتس حيث نشب بينهما خلاف.
وبينما كانت أم زعزع تحكي تفاصيل الكابوس الذي رأته في منامها وهي تجهش بالبكاء، كان أبو زعزع يعيد توصيل خط الهاتف الأرضي، ويعيد تركيب الشريحة في الجوال، ووصلة السيرفر إلى التلفاز. ثم ذهب إلى الحمام وتقيأ المفتاح، فتح به الباب وخرج. نعم خرج، ولكنه هذه المرة خرج ولم يعد!.
——————————————————————————————————————-

* برنامج تلفزيوني يقوم على تقديم المساعدة للبحث عن الأشخاص الغائبين أو المفقودين عن أهلهم أو أقربائهم، واللقاء معهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

×

Well, tough luck!

لقد وصلت إلى أكاديمية الإعلام الساخر، حيث نحول كل مأساة إلى كوميديا! هل أنت مستعد لاتخاذ خطوتك الأولى في عالم الكتابة الساخرة الاحترافية

× إذا, في أي ورطة وقعت هذه المرة؟